فصل: مطلب صحة العطف على الضمير من غير تأكيد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت ** لعادت إليه الروح وانتعش الجسم

على نفسه فليبك من ضاع عمره ** وليس له فيها نصيب ولا سهم

بخلاف خمر الدنيا والعياذ باللّه فإنها مهلكة للجسم والعقل، مدنسة للشريف والكيف {وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} 20 من أحسن أنواعها وأفضله، ومن هنا اقتبس جواز الانتقاء في أكل الفواكه سواء كانت مما يليه أو لا بخلاف الأكل فإنه لا يجوز إلا مما يليه، فالتناول من أمام الغير ممنوع لقوله صلى الله عليه وسلم: «وكل مما يليك».
ولهذا بسنّ في كل الأحوال أن يأكل الرجل مما يليه، وإلا فقد أساء الأدب وصار شرها مخالفا لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو الحكم الشرعي في الأكل {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} 21 ويخطر في بالهم أكله ويتمنونه من جميع أصناف الطيور، فإنه يحضر أمامهم حالا على الصّفة التي يريدونها من أنواع الطهي {وَحُورٌ عِينٌ} بيض واسعات الأعين وهي في الصفاء {كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} 23 المخزون في صدفه المصون من أن تلمسه يد لامس أو تقع عليه شمس أو هواء مما يكسف لونه مثل الدرّة حين تخرج من صدفتها، وهذا كله يكون في تلك الجنات التي فيها النعيم الذي لا يقادر قدره إلا الذي خلقه للمقربين {جَزاءً} لهم في الآخرة {بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} 24 في الدنيا من الطاعات والخيرات {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا} من فضول الكلام {وَلا تَأْثِيمًا} 25 من قول أو فعل فاحش يؤتثم به {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} 26 على بعضهم من بعضهم ومن الملائكة، ثم شرع يصف ما لأصحاب اليمين عنده فقال: {وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ} هو شجر النبق له ثمر صغير يشبه التفاح في الطعم والرائحة إلا أن ورقه مدور، وفيه شوك لم يوجد في التفاح، وهو موجود في البوادي أكثر منه في المدن والقرى، وورقه يقوم مقام الأشنان كالخطمي بالنظافة هذا هو الذي في الدنيا، أما الذي في الآخرة فهو {مَخْضُودٍ} 28 من الشوك وثمره عظيم وشجره كبير {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} 29 متراكم بعضه على بعض ويمتاز عن طلح الدنيا بالحجم والرائحة وعدم الغلاف، إذ لا فضول في فواكه الآخرة، كما أن أهلها لا فضول لهم، فهي وأهلها مبرأون من كل دنس ورجس وقذر، والمراد به الموز، وهو والتين أشبه بفاكهة الآخرة إذ لا فضول فيهما، {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} 30 منبسط دائما لا تنسخه شمس، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة اقرأوا إن شئتم {وظل ممدود}».
{وَماءٍ مَسْكُوبٍ} 31 مصبوب في الأكواب مهيأ للشرب موضوع بين أيديهم لا يحتاجون إلى كلفة الغرف والصبّ كلما فرغت آنيته ملئت {وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} 32 لأنها {لا مَقْطُوعَةٍ} كفاكهة الدنيا حتى تنفذ في موسمها {وَلا مَمْنُوعَةٍ} 33 من قبل أحد يحول دون قطفها ولا هي تابعة للبيع والشراء لأن أثمار الجنة أدي ثمنها في الدنيا وهي لا تحتاج للتناول بل غصنها نفسه يميل لطالبها ليقطف منها ما يريده ومتى ما قطف صار مكانه، لهذا وصفت بأنها غير مقطوعة وغير ممنوعة {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} 34 عالية ويكنى بها عن النساء الحسان المتعليات عليها بدليل قوله: {إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ} خلقناهن وأبدعناهنّ {إِنْشاءً} 35 جديدا بخلاف ما كن عليه في الدنيا، وذلك أن العرب تسمي المرأة فراشا ولباسا على طريق الاستعارة، والقرآن جاء بلغتهم، وعلى هذا يكون المعنى مرفوعة بالفضل والجمال والأدب والصون على نساء الدنيا، واللّه جل شأنه يشير بذلك إلى نساء المؤمنين، المؤمنات أصحاب اليمين لأنهن لأزواجهن الأخيرين في الدنيا {فَجَعَلْناهُنَّ} بعد أن كنّ ثيبات صيّرناهن {أَبْكارًا} 36 كنساء الجنة عذارى كأنهن لم يطمثن {عُرُبًا} حسنات التبعل متحببات لأزواجهن {أَتْرابًا} 37 مستويات في السن أمثالا في الخلق عمر الواحدة ثلاث وثلاثون سنة.

.مطلب نساء أهل الجنة والذين يدخلونها بغير حساب:

جاء عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين أو قال ثلاث وثلاثين».
وعليه فمن كانت عند موتها دون هذا السن أبلغت إليه، ومن كانت فوقه ردت إليه، لأنه سن الكمال في النساء، كما أن الأربعين سن الكمال في الرجال، ومما يدل على هذا ما رواه البغوي بسنده عن الحسن قال: «أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللّه أدع اللّه أن يدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز (وهذا من جملة مزحه صلى الله عليه وسلم إنه كان يمزح ولا يقول إلا حقا) قال فولت تبكي قال أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن اللّه تعالى قال: {إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً}» وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم «في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ} إلخ قال عجائز تركن الدنيا عمشا رمضا فجعلناهن أبكارا إلخ».
وهذا الخير الكثير المار ذكره كله {لِأَصْحابِ الْيَمِينِ} 38 وعشرة أمثاله نسأل اللّه أن يجعلنا منهم {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} 40 تقدم تفسير مثله، وقد روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عروة بن دويم قال:
«لما أنزل اللّه عز وجل: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} بكى عمر رضي اللّه عنه فقال يا نبي اللّه آمنا برسول اللّه وصدقناه، ومن ينجو منا قليل؟ فأنزل الله: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} فدعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عمر فقال قد أنزل تعالى فيما قلت، فقال رضينا عن ديننا وتصديق نبينا، فقال صلى الله عليه وسلم من آدم إلينا ثلّة، ومنا إلى يوم القيامة ثلة، ولا يستتمها إلا سودان من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا اللّه».
وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:
«عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط تصغير رهط وهو دون العشرة وتستعمل للأربعين كما مر في الآية الأولى من سورة الجن المارة، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع إلي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم، فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله فخاض القوم في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، قال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول اللّه، وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا باللّه، وذكروا أشياء، فخرج رسول اللّه عليهم فقال ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون (أي لا يقرأون على الناس ولا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم من تعاويذ وغيرها لأنهم متوكلون على اللّه تاركون الأسباب لمسببها) ولا يتطيرون (يتشاءمون من شي ء) وعلى ربهم يتوكلون في كل أمورهم. فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول اللّه أدع اللّه أن يجعلني منهم، فقال أنت منهم، فقام رجل آخر فقال يا رسول اللّه أدع اللّه أن يجعلني منهم، فقال سبقك بها عكاشة».
وليعلم أن الآية الأخيرة غير ناسخة للأولى، لأن الأولى في السابقين الأولين، وهم قليل بالنسبة للأمم قبلهم، ولذلك قال تعالى: {وقليل من الآخرين}، والآية الثانية في أصحاب اليمين وهم كثير، ولذلك قال: {وثلة من الآخرين}، وما جاء في بكاء عمر وحزنه في الحديث السابق المروي عن عروة والحديث الذي رواه أبو هريرة في معناه وزاد فيه فنسخت، وقليل من الآخرين أي منهم، فيكثرهم الفائزون في الجنة من الأمم السوالف، ولذلك حزن عمر رضي اللّه عنه وقال له صلى الله عليه وسلم ما قال مما أذهب حزنه، لأن الحديث لا ينسخ القرآن كما نوهنا به في المقدمة في بحث الناسخ والمنسوخ، على أنه ليس فيه نسخ كما زعم بعضهم، وإذا صح ما جاء في حديث أبي هريرة من قوله فنسخت {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} فينبغي تأويله بأن يقال أراد به فأزالت حسبان عمر، أي بذكر نحوه في الفائزين بالجنة من هذه الآية غير السالفين، فتدبر.
ثم بدأ يشرح أحوال الأشقياء حفظنا اللّه منهم ومما هم صائرون إليه فقال عز قوله: {وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ} 41 فيه تهويل من عظيم ما هم صائرون إليه من شدة العذاب، لأنهم يومئذ يكونون {فِي سَمُومٍ} أشد الرياح حرا يكاد حرها يدخل في مسام الأديم {وَحَمِيمٍ} 42 ماء متناه في الحرارة والغليان يعطونه إذا اشتد عطشهم فيزيد ببلائهم أجارنا اللّه من ذلك {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} 43 دخان بالغ من السواد أقصاه، ثم وصفه بأنه {لا بارِدٍ} لأنه ناشئ عن دخان حار {وَلا كَرِيمٍ} 44 لأنه لا ينفع من يأوي إليه ليستظل به لأن كرم الظل الاسترواح به من وهج الحر، وإنما صيّرهم اللّه إلى هذه الحالة السيئة بسبب {إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ} الوقوع في هذا العذاب في دنياهم {مُتْرَفِينَ} 45 بنعم اللّه وقد تقووا بها على معصيته فاستعملوها لغير ما خلقت لها {وَكانُوا} مع ذلك في دنياهم أيضا {يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} 46 يداومون على الذنب الذي يتحنث منه ويتأثم به، يقال بلغ الغلام الحنث أي زمن ما يكون مؤاخذا به على عمله السيئ ويعد عليه إثما إذ قبل البلوغ لا يعتد به ولا يعاقب عليه، وقد وصفه بالعظيم ليعلم أن المراد منه الشرك باللّه، إذ لا أعظم منه ذنبا {وَكانُوا يَقولونَ} بعضهم لبعض فضلا عن ذلك {أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 47 استفهام إنكار وسخرية باللّه ورسله الذين أخبروهم بالبعث بعد الموت الذي ينكرونه وخوفوهم عاقبته ويقولون أيضا {أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ} 48 يبعثون أيضا، زيادة في الاستهزاء، وقد جاء هنا العطف على المضمر من غير تأكيد في الضمير المنفصل كما في نحو {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} الآية 35 من البقرة، ومثلها في الآية 68 من الأعراف المارة في قوله: {نَحْنُ وَلا آباؤُنا} الآية 35 من سورة النحل، وإنما جاز ذلك لوجود الفاصل وهو الاستفهام، كما جاز الفصل بلا في الآية الأخيرة وفي الآية 147 من سورة الأنعام، وهي {ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا} لتأكيد النظر بلا المذكورة.

.مطلب صحة العطف على الضمير من غير تأكيد:

فلم يبق من حاجة لذكر نحن في الآيتين الأخيرتين، لأن الضمير المنفصل إنما يجب الإتيان به لصحة العطف إذا لم يكن هناك استفهام ولا نفي مؤكد كما في آية النحل وهاتين الآيتين أي الآية المفسرة وآية الأنعام، فيا أكرم الرسل {قُلْ} لقومك المقتفين آثار أولئك الكفرة والجاحدين المقلدين لهم بإنكار البعث {إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ} 49 من جميع الخلق طائعهم وعاصيهم وعزة اللّه وجلاله وعظمته ونواله {لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} 50 عند اللّه وواقفون بين يديه للحساب والجزاء {ثُمَّ} يقال لهم من قبل الملائكة الموكلين بتبليغهم وسؤالهم من قبل اللّه {إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ} عن طرق الهدى {الْمُكَذِّبُونَ} 51 بهذا اليوم {لَآكِلُونَ} في جهنم زيادة على تعذيبكم فيها {مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} 52 شديد المرارة وهو نبت فيها أشبه بالحنظل في أرض الدنيا، {فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ} 53 رغما عنكم لأن ملائكة العذاب يقسرونهم على أكله والشرب من الحميم أيضا، ليزيدوا في تعذيبهم كما تعلف الدواب المربوطة قسرا من قبل أهل الدنيا {فَشارِبُونَ عَلَيْهِ} عند شدة عطشكم {مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} 55 الإبل المصابة في داء الهيام فإنها لفرط ظمئها لا تزال تشرب حتى تهلك، لأنها لا تروى قال الشاعر:
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد ** صداها ولا يقضي عليها هيامها

و من كان شربه والعياذ باللّه الماء المغلي كيف يروى؟ وهذا بعض عذاب أهل النار، إذ يسلط عليهم الجوع فتضطرهم الملائكة لأكل الزقوم، ويسلط عليهم العطش فتضطرهم أيضا لشرب الهيم {هذا} أيها السائل {نُزُلُهُمْ} ما يقدم إليهم في جهنم أول دخولهم فيها ويلجئونهم على تناوله تكرمة لهم على حد قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} الآية 21 من آل عمران، وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} الآية 49 من الفرقان، على طريق التقريع والاستهزاء (والنزل) هو أول ما يقدم للضيف عند قدومه ثم بعد استراحته يقدم له الطعام والشراب، وأهل النار أول ما يقدم لهم ذلك ثم يأتيهم والعياذ باللّه ما لم تتخيله أذهانهم من العذاب {يَوْمَ الدِّينِ} 56 الجزاء الذي ينالونه فيه على أعمالهم وفي قوله تعالى: {نزلهم} تهكم فيهم وسخرية بهم لأنه إذا كان هذا أول عذابهم فما ظنك فيما بعده؟ أجارنا اللّه وحمانا، وقيل في المعنى: